فصل: 234- باب فضل الجهاد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تطريز رياض الصالحين



.كتَاب الجِهَاد:

.234- باب فضل الجهاد:

قَالَ الله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
الجهاد: هو مقاتلة الكفرة لإعزاز الدين.
وفي هذه الآية: تحضيضٌ للمسلمين على محاربة المشركين، وبشارة لهم بالنصر.
وقال تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
قال ابن كثير: هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام.
وقال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد، فالقاعد عليه إذا استُعين أن يعين، وإذا استُغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه، قعد.
وقال تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بأَمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 41].
في هذه الآية: الأمر بالنفي إلى جهاد الكفار، والأمر بإنفاق المال في ذلك.
وقال تَعَالَى: {إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة: 111].
هذا أعظم عقد، وأربح تجارة، وأصدق وعد، وأعظم بشارة، وأوفى عهد.
قال قتادة: ثامنهم الله عزَّ وجلّ، فأغلى ثمنهم.
وقال عمر رضي الله عنه: إنَّ الله عز وجلّ بايعك وجعل الصفقتين لك.
وقال الحسن: اسعوا إلى بيعة ربيحة، بايع الله بها كل مؤمن.
وقال الله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 95، 96].
في هذه الآية: فضل الجهاد والحث عليه، أي: ليس المؤمنون القاعدون عن الجهاد من غير عذر، والمؤمنون المجاهدون سواء، غير أولي الضرر، فإنهم يساوون المجاهدين؛ لأنَّ العذر أقعدهم.
{فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً}، قيل: أراد بالقاعدين ههنا: أولي الضرر؛ لأنَّ المجاهد باشر الجهاد مع النيّة، وأُلي الضرر كانت لهم نية، ولكنهم لم يباشروا.
{وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أجْرًا عَظِيمًا}، يعني: على القاعدين من غير عذر {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
وقال تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِن اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤمِنينَ} [الصف: 10- 13].
أي: بشَّر يَا محمد المجاهدين بالجنة في الآخرة، والنصر في الدنيا. والنجاة من عذاب الله.
والآيات في الباب كثيرةٌ مشهورةٌ.
أي: الآيات في وجوب الجهاد وفضله كثيرة في القرآن واضحة.
وأما الأحاديث في فضل الجهاد فأكثر من أنْ تحصر، فمن ذلك:
1285- عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأَعْمَال أفْضَلُ؟ قَالَ: «إيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ». قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الجهادُ في سَبيلِ اللهِ». قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ». متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: أن الجهاد أفضل من نافلة الحج.
1286- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله، أيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بِرُّ الوَالِدَيْنِ». قلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال الطبري: خص عليه الصلاة والسلام هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات.
1287- وعن أَبي ذرّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله، أيُّ العَمَلِ أَفْضلُ؟ قَالَ: «الإيمَانُ بِاللهِ، وَالجِهَادُ في سَبِيلهِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: فضل الجهاد؛ لأنه قرنه بالإِيمان بالله.
1288- وعن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَغَدْوَةٌ في سَبيلِ اللهِ، أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». متفقٌ عَلَيْهِ.
الغُدوة: سير أول النهار. والروحة: سير آخره.
1289- وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ قَالَ: «مُؤْمنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبيلِ اللهِ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ في شِعبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: فضل المؤمن المجاهد، وفضل العزلة إذا خاف الفتنة.
1290- وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ في سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ الغَدْوَةُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا». متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحدبث: فضل الرباط، وهو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين.
1291- وعن سَلمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإنْ مَاتَ فيه أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الفَتَّانَ». رواه مسلم.
قوله: «وأُجري عليه رزقه» أي: برزق من الجنة كما يرزق الشهداء.
1292- وعن فَضَالَةَ بن عُبَيْد رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلا المُرَابِطَ فِي سَبيلِ اللهِ، فَإنَّهُ يُنْمى لَهُ عَمَلهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيُؤَمَّنُ مِنْ فِتْنَةَ القَبْرِ». رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
فيه: فضيلة الرباط، وأن المرابط لا ينقطع عمله بالموت.
1293- وعن عثمان رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبيلِ اللهِ، خَيْرٌ مِنْ ألْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المَنَازِلِ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
قال ابن بزيزة: لا تنافي بينه وبين حديث: «خير من صيام شهر».
قال البيهقي: القصد من هذا ونحوه الإخبار بتضعيف أجر المرابط على غيره، ويختلف ذلك بحسب اختلاف حال الناس نيةً وإخلاصًا، وباختلاف الأوقات.
1294- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَضَمَّنَ الله لِمَنْ خَرَجَ في سَبيلِهِ، لا يُخْرِجُهُ إِلا جِهَادٌ في سَبيلِي، وَإيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَيَّ أنْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَنْزِلهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرٍ، أَوْ غَنيمَةٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ في سَبيلِ اللهِ، إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ كُلِم؛ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ ريحُ مِسْكٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلاَ أنْ أَشُقَّ عَلَى المُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو في سَبيلِ اللهِ أَبدًا، وَلكِنْ لاَ أجِدُ سَعَةً فأَحْمِلُهُمْ وَلا يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي. وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أنْ أَغْزُوَ في سَبيلِ اللهِ، فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أغْزُوَ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أغْزُوَ فَأُقْتَلَ». رواه مسلم، وروى البخاري بعضه.
«الكَلْمُ»: الجَرْحُ.
قال الحافظ: قوله: «تضمن الله وتكفل الله، وانتدب الله» بمعنى واحد، ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، وذلك التحقيق على وجه الفضل منه سبحانه وتعالى.
1295- وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَم في سَبيِلِ الله إِلا جَاءَ يَومَ القِيَامةِ، وَكَلْمُهُ يدْمَى: اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ ريحُ مِسكٍ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك، أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى.
1296- وعن معاذٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ الله من رَجُلٍ مُسْلِمٍ فُوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا في سَبِيلِ اللهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأَغزَرِ مَا كَانَتْ: لَونُها الزَّعْفَرَانُ، وَريحُها كَالمِسْكِ». رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح).
الفُوَاقُ: ما بين الحلبتين، وهو كناية عن قليل الجهاد.
وفيه: بشارة لمن جاهد في سبيل الله، طلبًا لمرضاة الله بالموت على الإسلام.
1297- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِشِعبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَة، فَأعْجَبَتْهُ، فَقَالَ: لَو اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأقَمْتُ في هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أفْعَلَ حَتَّى أسْتَأْذِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَرَ ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لاَ تَفعلْ؛ فَإنَّ مُقامَ أَحَدِكُمْ في سَبيلِ اللهِ أفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ في بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ، وَيُدْخِلَكُمُ الجَنَّةَ؟ أُغْزُوا في سَبيلِ الله، من قَاتَلَ في سَبِيلِ اللهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ).
وَ «الفُوَاقُ»: مَا بَيْنَ الحَلْبَتَيْنِ.
في هذا الحديث: الحض على الجهاد في سبيل الله، وأنه أفضل من نوافل العبادة.
1298- وعنه قَالَ: قيل: يَا رسولَ اللهِ، مَا يَعْدلُ الجهادَ في سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «لا تَسْتَطِيعُونَهُ» فَأعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ»! ثُمَّ قَالَ: «مَثَلُ المُجَاهِدِ فِي سَبيلِ اللهِ كَمَثلِ الصَّائِمِ القَائِمِ القَانتِ بآياتِ الله لا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ، وَلا صَلاَةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ المُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ». متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلمٍ.
وفي رواية البخاري: أنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رسول الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: «لا أجِدُهُ» ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتقومَ وَلا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ؟» فَقَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟!.
فيه: أنه لا يعدل الجهاد شيء من نوافل العبادات.
1299- وعنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ بعِنَانَ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي القَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ في غُنَيْمَةٍ في رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذَه الشَّعَفِ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِن هَذِهِ الأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَيُؤتي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأتِيَهُ اليَقِينُ، لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلا في خَيْرٍ». رواه مسلم.
في هذا الحديث: استحباب الاستعداد للجهاد في سبيل الله، واستحباب العزلة.
1300- وعنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الجنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ». رواه البخاري.
فيه: عظيم فضل المجاهد وعظم عناية الله به.
1301- وعن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإسْلاَمِ دينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ»، فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رسولَ اللهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا العَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ في الجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَينِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ». قَالَ: وَمَا هيَ يَا رسول الله؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، الجهَادُ في سَبيلِ اللهِ». رواه مسلم.
قال القرطبي: الدرجة: المنزلة الرفيعة، ويراد بها غرف الجنة ومراتبها التي أعلاها الفردوس.
1302- وعن أَبي بكر بن أَبي موسى الأشعريِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبي رضي الله عنه وَهُوَ بَحَضْرَةِ العَدُوِّ، يقول: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أبْوَابَ الجَنَّةِ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ». فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الهَيْئَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى أَأَنْتَ سَمِعْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أقْرَأُ عَلَيْكُم السَّلاَمَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَألْقَاهُ، ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى العَدُوِّ فَضَربَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم.
قوله: «إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف». قال القرطبي: هو من الكلام النفيس الجامع الموجز، المشتمل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد، والإخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدو، واستعمال السيوف، والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين.
1303- وعن أَبي عبسٍ عبد الرحمن بن جَبْرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ». رواه البخاري.
فيه: بشارة للمجاهد بالنجاة من النار. وعند أحمد وغيره من حديث معاذ «ولا اغبرت قدم في عمل يبتغي به درجات الآخرة بعد الصلاة المفروضة، كجهاد في سبيل الله».
1304- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيةِ الله حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ في سَبيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
فيه: بشارة بالنجاة من النار لمن خشي الله تعالى، وللمجاهدين في سبيل الله.
1305- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عَيْنَانِ لا تَمسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبيلِ اللهِ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ).
الخشية: الخوف الناشئ عن تعظيم ومعرفة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.
1306- وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازيًا في سَبيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازيًا في أهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا». متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: أن من أعان مؤمنًا على عمل فله مثل أجر العامل.
1307- وعن أَبي أُمَامَة الباهلي رضي الله عنه قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفْضَلُ الصَّدَقَاتِ ظِلُّ فُسْطَاطٍ في سَبِيلِ اللهِ وَمَنيحَةُ خَادِمٍ في سَبِيلِ اللهِ، أَوْ طَرُوقَةُ فَحلٍ في سَبِيلِ اللهِ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
فيه: أن أفضل الصدقات والعواري ما كان في الجهاد.
1308- وعن أنس رضي الله عنه: أن فَتَىً مِنْ أسْلَمَ، قَالَ: يَا رسولَ اللهِ، إنِّي أُرِيدُ الغَزْوَ وَلَيْسَ مَعِيَ مَا أَتَجهَّزُ بِهِ، قَالَ: «ائْتِ فُلانًا فَإنَّهُ قَدْ كَانَ تَجَهَّزَ فَمَرِضَ» فَأتَاهُ، فَقَالَ: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ، ويقول: أَعْطِني الَّذِي تَجَهَّزْتَ بِهِ. قَالَ: يَا فُلاَنَةُ، أَعْطِيهِ الَّذِي كُنْتُ تَجَهَّزْتُ بِهِ، وَلاَ تَحْبِسِي عَنْهُ شَيْئًا، فَوَاللهِ لاَ تَحْبِسِي مِنْهُ شَيْئًا فَيُبَارَكَ لَكِ فِيهِ. رواه مسلم.
فيه: أن من أخرج شيئًا في وجه من وجوه الخير، ثم عرض له ما يمنعه أنه يستحب له صرفه في مثله من أبواب الخير.
1309- وعن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَى بَنِي لَحْيَانَ، فَقَالَ: «لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أحَدُهُمَا، وَالأَجْرُ بَيْنَهُمَا». رواه مسلم.
وفي روايةٍ لَهُ: «لِيَخْرُجَ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ» ثُمَّ قَالَ للقاعد: «أيُّكُمْ خَلَفَ الخَارِجَ في أهْلِهِ وَمَالِهِ بِخيْرٍ كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أجْرِ الخَارِجِ».
فيه: أن من خَلَّف الغازي في أهله وماله بخير، فله نصف أجر الغازي من غير أن ينقص من أجره شيء.
1310- وعن البَراءِ رضي الله عنه قال: أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بالحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: «أسْلِمْ، ثُمَّ قَاتِلْ». فَأسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ. فَقَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا». متفقٌ عَلَيْهِ. وهذا لفظ البخاري.
فيه: أن الأعمال بالخواتيم.
1311- وعن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ».
وفي رواية: «لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: فضل الشهادة وحقارة الدنيا، وعبر بالتمني؛ لأن الرجوع إلى الدنيا محال.
1312- وعن عبدِ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَغْفِرُ اللهُ لِلشَّهِيدِ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ الدَّيْنَ». رواه مسلم.
وفي روايةٍ له: «القَتْلُ في سَبيلِ اللهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شيءٍ إلاَّ الدَّيْن».
في حديث ابن مسعود عند أبي نعيم: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا- أَوْ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ- إِلَّا الْأَمَانَةَ، وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّوْمِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ، فَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ».
1313- وعن أَبي قتادة رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِيهِم فَذَكَرَ أنَّ الجِهَادَ في سَبيلِ اللهِ، وَالإيمَانَ بِاللهِ، أفْضَلُ الأعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، أرأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ، أتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، إنْ قُتِلْتَ في سَبيلِ الله وَأنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ»، ثُمَّ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ قُلْتَ؟» قَالَ: أَرَأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ، أتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، وَأنْتَ صَابرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيرُ مُدْبِرٍ، إِلا الدَّيْنَ فَإنَّ جِبْريلَ- عليه السلام- قَالَ لِي ذَلِكَ». رواه مسلم.
فيه: فضيلة عظيمة للمجاهد، وهي تكفير خطاياه كلها، إلا حقوق الآدميين.
1314- وعن جابر رضي الله عنه قال: قَالَ رَجُلٌ: أيْنَ أنَا يَا رسول الله إنْ قُتِلْتُ؟ قَالَ: «في الجَنَّةِ». فَألْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم.
كان ذلك يوم أُحُد.
قال الشارح: أجابه صلى الله عليه وسلم بالبتِّ؛ لأنه علم منه الإِخلاص في الجهاد، ومن قتل كذلك دخل الجنة.
1315- وعن أنس رضي الله عنه قال: انْطَلَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا المُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ المُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَقْدِمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أنَا دُونَهُ». فَدَنَا المُشْرِكُونَ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماوَاتُ وَالأرْضُ» قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بن الحُمَامِ الأنْصَارِيُّ رضي الله عنه: يَا رسولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّماوَاتُ وَالأرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: بَخٍ بَخٍ؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَولِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أهْلِهَا، قَالَ: «فَإنَّكَ مِنْ أهْلِهَا». فَأخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَييتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هذِهِ إنّهَا لَحَياةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم.
«القَرَن» بفتح القاف والراء: هُوَ جُعْبَةُ النشَّابِ.
قوله: «لا يقدمنَّ أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه» المراد: النهي عن الاستبداد في شيء دون أمره صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث: المسارعة إلى الشهادة.
1316- وعنه قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا القُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ يُقَالُ لَهُمْ: القُرّاءُ، فِيهِم خَالِي حَرَامٌ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالمَاءِ، فَيَضَعُونَهُ في المَسْجِدِ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لأَهْلِ الصُّفَّةِ، وَلِلفُقَرَاءِ، فَبَعَثَهُمُ النبي صلى الله عليه وسلم فَعَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أنْ يَبْلغُوا المَكَانَ، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا، وَأتَى رَجُلٌ حَرامًا خَالَ أنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أنْفَذَه، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ إخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا وَإنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا». متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلم.
قوله: «فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان»، أي: مكان أبي براء ابن ملاعب الأسنَّة، عرض لهم عدو الله عامر بن الطفيل، واستصرخ عليهم بني عامر فأبَوا أن يجيبوه، وقالوا: لا نخفر أبا براء وقد عقد لهم جوازًا، فاستصرخ عليهم رعلًا، وذكوان، وعصية، فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقاتلوهم فقتلوهم في معرك الحرب.
1317- وعنه قَالَ: غَابَ عَمِّي أنسُ بنُ النَّضْرِ رضي الله عنه عن قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، غِبْتُ عَنْ أوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللهُ أشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَومُ أُحُدٍ وانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي اعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءُ- يعني: أصْحَابَهُ- وَأبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ- يَعنِي: المُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعَدَ بنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أجِدُ ريحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ! قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رسولَ اللهِ مَا صَنَعَ! قَالَ أنسٌ: فَوَجدْنَا بِهِ بِضعًا وَثَمَانِينَ ضَربَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً برُمح أَوْ رَمْيةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَمَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أحَدٌ إِلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أنسٌ: كُنَّا نَرَى- أَوْ نَظُنُّ- أنَّ هذِهِ الآية نَزَلتْ فِيهِ وَفي أشْبَاهِهِ: {مِنَ المُؤمِنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} إِلَى آخرها [الأحزاب: 23]. متفقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ سبق في باب المجاهدة.
قوله: «إني أجد ريحها من دون أُحُد» يحتمل أنه نشق ريح الجنة حقيقة، ويحتمل أنه استحضر الجنة فصور أنها في ذلك الموضع. والمعنى: أني لأعلم أن الجنة تكتب بالشهادة فأنا مشتاق لها.
1318- وعن سَمُرَة رضي الله عنه قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أتيَانِي، فَصَعِدَا بِي الشَّجرةَ فَأدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أحْسَنَ مِنْهَا، قالا: أمَّا هذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ». رواه البخاري، وَهُوَ بعض من حديث طويل فِيهِ أنواع العلم سيأتي في باب تحريم الكذب إنْ شاء الله تَعَالَى.
فيه: أن منزل الشهداء في الجنة أحسن المنازل.
1319- وعن أنس رضي الله عنه أنَّ أمَّ الرُّبيعِ بنتَ البَرَاءِ وهي أُمُّ حَارِثة بن سُرَاقَةَ، أتَتِ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رسولَ اللهِ، ألا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ- وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ- فَإنْ كَانَ في الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ في البُكَاءِ، فَقَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ إنَّهَا جِنَانٌ في الجَنَّةِ، وَإنَّ ابْنَكِ أصابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى». رواه البخاري.
كان قولها قبل تحريم النوح؛ لأن تحريمه كان بعد غزوة أُحد.
1320- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: جِيءَ بِأَبِي إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وقَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَذَهَبْتُ أكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا زَالتِ المَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا». متفقٌ عَلَيْهِ.
تظليل الملائكة تشريف له. وفي رواية للبخاري: «ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه».
1321- وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَألَ اللهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ». رواه مسلم.
1322- وعن أنس رضي الله عنه قال: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا ولو لَمْ تُصِبْهُ». رواه مسلم.
في هذين الحديثين: أن من نوى شيئًا من أعمال البر صادقًا من قلبه، أثيب عليه وإن لم يتفق له ذلك.
1323- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ القَتْلِ إِلا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
قوله: «من مسِّ القَرَصة»، أي: قرصة نحو النملة من كل مؤلم ألمًا خفيفًا، سريع الانقضاء، لا يعقب علة ولا سقمًا.
قال العاقولي: القرصُ: الأخذ بأطراف الأصابع. وأدخل عليها أداة الحصر. دفعًا لما يتوهم أنَّ ألمه أعظم من ألمها.
1324- وعن عبد الله بن أَبي أوْفَى رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ في النَّاسِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُموهُمْ فَاصْبِروا؛ وَاعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ». ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، أهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قوله: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية». قال ابن بطال: حكمة النهي أنه لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن.
قال الحافظ: وفي الحديث: استحباب الدعاء عند اللقاء، ووصية المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، ومراعاة نشاط النفوس لفعل الطاعة، والحث على سلوك الأدب.
1325- وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثِنْتَانِ لا تُرَدَّانِ، أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ وَعِنْدَ البَأسِ حِيْنَ يُلْحِمُ بَعْضُهُم بَعضًا». رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
قوله: «حين يلحم بعضهم بعضًا»، أي: يتقاربون. وروي بالجيم، أي كأن كلًا يلجم صاحبه بالسلاح.
1326- وعن أنس رضي الله عنه قال: كَانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا، قَالَ: «اللَّهُمَّ أنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ». رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ).
في هذا الحديث: الخروج من حول العبد وقوته، والاعتماد على الله سبحانه وتعالى.
1327- وعن أَبي موسى رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَافَ قَومًا، قَالَ: «اللَّهُمَّ إنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهمْ». رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
فيه: التحصن بالله تعالى، والالتجاء إليه فيما ينزل بالإنسان.
1328- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الخَيْلُ مَعقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
سميت خيلًا لا ختيالها، وهو إعجابها بنفسها مرحًا.
1329- وعن عروة البارِقِيِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الخَيْلُ مَعقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ: الأجْرُ، وَالمَغْنَمُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
وعند الطبراني من حديث جابر: «الخيل معقود في نواصيها الخير واليمن إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، قلدوها، ولا تقلدوها الأوتار»، زاد أحمد: «فامسحوا بنواصيها وادعوا لها بالبركة».
وعند البرقاني: «والإبل عزٌ لأهلها والغنم بركة».
قال عياض: في هذا الحديث مع وجيز لفظه، من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن، مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير.
1330- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللهِ، إيمَانًا بِاللهِ، وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإنَّ شِبَعَهُ، وَرَيَّهُ ورَوْثَهُ، وَبَوْلَهُ في مِيزَانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ». رواه البخاري.
في هذا الحديث: فضل النفقة على الخيل المحتبسة في سبيل الله.
وفيه: أن النية يترتب عليها الأجر.
1331- وعن أَبي مسعود رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَاقةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ: هذِهِ في سَبيلِ اللهِ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَكَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ سَبْعُ مائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ». رواه مسلم.
هذا مأخوذ من قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة 261].
1332- وعن أَبي حمادٍ- ويقال: أَبُو سعاد، ويقال: أَبُو أسدٍ، ويقال: أَبُو عامِر، ويقال: أَبُو عمرو، ويقال: أَبُو الأسود، ويقال: أَبُو عبسٍ- عُقبة بن عامِر الجُهَنيِّ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، يقول: «{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال 60]، أَلا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، ألا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، ألا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ». رواه مسلم.
قوله: «ألا إن القوة الرمى»: أي: هو أعظم أنواعها نكاية في العدو، وأنفعها في الحرب.
1333- وعنه قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ، وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلا يَعْجِز أَحَدُكُمْ أنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ». رواه مسلم.
فيه: الندب إلى الرمي والتمرن عليه.
1334- وعنه: أنَّه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عُلِّمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ فَقَدْ عَصَى». رواه مسلم.
هذا تشديد عظيم في نسيان الرمي بعد علمه. وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من علم الرمي ونسيه فهي نعمة جحدها».
1335- وعنه رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ اللهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، وَالرَّامِي بِهِ، ومُنْبِلَهُ. وَارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأنْ تَرْمُوا أحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ تَرْكَبُوا. وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَ مَا عُلِّمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا» أَوْ قَالَ: «كَفَرَهَا». رواه أَبُو داود.
في هذا الحديث: فضيلة الرمي، وأنه من اللهو المستحب. وآخر الحديث: «ليس من اللهو ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله». أي: ليس ذلك من اللهو المكروه.
1336- وعن سَلَمة بن الأكَوعِ رضي الله عنه قال: مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ: «ارْمُوا بَنِي إسماعِيلَ فَإنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» رواه البخاري.
فيه: الحث على الرمي، والاقتداء بالآباء في الأفعال المحمودة.
1337- وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ رَمَى بِسَهمٍ في سَبيلِ الله فَهُوَ لَهُ عِدْلُ مُحَرَّرَةٍ». رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
قوله: «عدل محررة»، أي: مثل رقبة معتقة.
1338- وعن أَبي يحيى خُرَيْم بن فاتِكٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أنْفَقَ نَفَقَةً في سَبيلِ اللهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُ مِائَةِ ضِعْفٍ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ).
وروى أحمد وغيره عن أبي عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ أنْفَقَ نَفَقَةً فَاضِلَةً فِي سَبِيلِ اللهِ، فَبِسَبْعِ مِائَةٍ، وَمَن أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى أَهْلِهِ، أَوْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ مَازَ أَذًى عَنْ طَرِيقٍ فَهِيَ حَسَنَةٌ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا، وَمَنِ ابْتَلاهُ اللهُ ببَلاءً فِي جَسَدِهِ فَهُوَ لَهُ حِطَّةٌ».
1339- وعن أَبي سعيد رضي الله عنه قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبيلِ اللهِ إِلا بَاعَدَ اللهُ بِذلِكَ اليَوْمِ وَجهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرْيفًا». متفقٌ عَلَيْهِ.
الخريف هنا: العام، والفضل المذكور محمول على من لم يضعفه الصوم عن الجهاد.
1340- وعن أَبي أُمَامَة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا في سَبيلِ اللهِ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كما بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
أخرج أحمد وغيره، عن العباس بن عبد المطلب، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أتدرون كم بين السماء والأرض؟» قلنا: الله أعلم ورسوله، قال: «بينهما مسيرة خمسمائة سنة...». الحديث.
1341- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بغَزْوٍ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ». رواه مسلم.
قال القرطبي: في الحديث: أن من لم يتمكن من عمل الخير ينبغي له العزم على فعله إذا تمكن منه، ليكون بدلًا عن فعله، فأما إذا خلا عنه ظاهرًا وباطنًا، فذلك شأن المنافق الذي لا يعمل الخير ولا ينويه، خصوصًا الجهاد الذي أعز الله به الإسلام، وأظهر به الدين.
1342- وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غَزاةٍ فقال: «إنَّ بِالمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ المَرَضُ».
وفي رواية: «حَبَسَهُمُ العُذْرُ».
وفي رواية: «إِلا شَرَكُوكُمْ في الأجْرِ». رواه البخاري من رواية أنس، ورواه مسلم من رواية جابر واللفظ لَهُ.
قال العيني: فيه: أن من حبسه العذر عن أعمال البر مع نيته فيها يكتب له أجر العامل بها.
1343- وعن أَبي موسى رضي الله عنه أنَّ أعرابيًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقال: يَا رسولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ ليُرَى مَكَانُهُ؟
وفي رواية: يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً.
وفي رواية: وَيُقَاتِلُ غَضَبًا، فَمَنْ في سبيل الله؟ فقالَ رسولُ اللهِ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ في سَبيلِ اللهِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
الحاصل: أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب. وكلٌّ منها يتناوله المدح والذم، فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي.
وفي الحديث: أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة.
وفيه: ذم الحرص على الدنيا، وعلى القتال، لحض النفس في غير الطاعة.
وفيه: أن الفضل الذي ورد في المجاهدين مختص بمن قاتل لإعلاء دين الله.
قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله، لم يضره ما انضاف إليه.
1344- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيّةٍ تَغْزُو، فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ، إِلا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورهُمْ، وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سَرِيّةٍ تُخْفِقُ وَتُصَابُ إِلا تَمَّ أجُورهُمْ». رواه مسلم.
معناه: أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم، أو سلم ولم يغنم، كما قال بعض الصحابة: فمنا من سلم ولم يأكل من أجره شيئًا، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها.
1345- وعن أَبي أُمَامَة رضي الله عنه أنَّ رجلًا قَالَ: يَا رسولَ اللهِ، ائْذَنْ لي في السِّيَاحَةِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ- عز وجل-». رواه أَبُو داود بإسنادٍ جيدٍ.
السياحة: مفارقة الوطن والذهاب في الأرض.
وقال ابن المبارك: عن ابن لهيعة: أخبرني عمارة بن غزية، أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبدلنا الله بذلك، الجهاد في سبيل الله، والتكبير على كل شرف».
وقال ابن عباس وغيره: السائحون، الصائمون.
وقال عكرمة: السائحون هم طلبة العلم.
قال ابن كثير: ومن أفضل الأعمال، الصيام وهو ترك الملاذ من الطعام والشراب والجماع، وهو المراد بالسياحة هاهنا، ولهذا قال: {السَّائِحُونَ} [التوبة: 112]، كما وصف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى: {سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5]، أي صائمات، وكذا الركوع والسجود وهما عبارة عن الصلاة، ولهذا قال: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ} [التوبة: 112]، وهم مع ذلك ينفعون خلق الله، ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علمًا وعملًا، فقاموا عبادة الحق، ونصح الخلق، ولهذا قال: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13]، إلى أن قال: وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن، والزلازال في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم، يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن».
1346- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَفْلَةٌ كَغَزْوَةٍ». رواه أَبُو داود بإسنادٍ جيدٍ.
«القَفْلَةُ»: الرُّجُوعُ، وَالمراد: الرُّجُوعُ مِنَ الغَزْوِ بَعدَ فَرَاغِهِ؛ ومعناه: أنه يُثَابُ في رُجُوعِهِ بعد فَرَاغِهِ مِنَ الغَزْوِ.
في هذا الحديث: أن أجر المجاهد في انصرافه إلى أهله بعد غزوه، كأجره في إقباله إلى الجهاد، كما يكتب أثر الماشي إلى المسجد، ورجوعه إلى أهله.
1347- وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: لَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوك تَلَقَّاهُ النَّاسُ، فَتَلَقّيتُهُ مَعَ الصِّبْيَانِ عَلَى ثَنيَّةِ الوَدَاعِ. رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح بهذا اللفظ.
ورواه البخاري قَالَ: ذَهَبنا نَتَلَقَّى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ.
ثنية الوداع: موضع بقرب المدينة، سمّيت بذلك لأن المسافر كان يشيع إليها ويودع عندها.
1348- وعن أَبي أُمَامَة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لَمْ يَغْزُ، أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا، أَوْ يَخْلُفْ غَازيًا في أهْلِهِ بِخَيرٍ، أصَابَهُ اللهُ بِقَارعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ». رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
فيه: الوعيد لمن لم يجاهد بنفسه أو ماله.
1349- وعن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَألْسِنَتِكُمْ». رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح.
فيه: وجوب الجهاد بالمال، والنفس، واللسان، قال الله تعالى: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 41].
1350- وعن أَبي عمرو- ويقالُ: أَبُو حكيمٍ- النُّعْمَانِ بن مُقَرِّن رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ من أوَّلِ النَّهَارِ أخَّرَ القِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ. رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
فيه: أن أحسن أوقات القتال أول النهار وبعد زوال الشمس لبرد الوقت.
قال ابن رَسْلاَن: وحربه عند هبوب الرياح استبشار بما نصره الله من الرياح، وهذا مفهوم من قوله: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور».
1351- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن بطال: حكمة النهي، أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن.
وقال الصدِّيق: لأن أعافى فأشكر، أحب إليَّ من أن أبتلى فأصبر.
وكان عليٌّ يقول: لا تدعُ إلى المبارزة، فإذا دعيت فأجب تنصر، فإن الداعي باغٍ.
1352- وعنه وعن جابرٍ رضي الله عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الحَرْبُ خَدْعَةٌ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قوله: خدعة، بتثليث الخاء.
وفي الحديث: جواز استعمال الحيلة في الحرب مهما أمكن.
قال المهلب: الخِدَاع في الحرب جائز كيفما أمكن، إلا بالأيمان والعهود والصريح بالأمان، فلا يحل شيء من ذلك.
قال بعض أهل السير: قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام يوم الأحزاب لنعيم بن مسعود.